فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{وألقى في الأرض رواسي} يعني جبالًا ثقالًا {أن تميد بكم} يعني لئلا تميل وتضطرب بكم، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كالأرض، وقال وهب: لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تمور وتتحرك فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرة أحدًا على ظهرها فأصبحوا، وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال {وأنهارًا} يعني وجعل فيها أنهارًا لأن في ألقى معنى الجعل، فقوله سبحانه وتعالى: {وأنهارًا} معطوف على {وألقى} ولما ذكر الله الجبال ذكر بعدها الأنهار لأن معظم عيون الأنهار، وأصولها تكون من الجبال {وسبلًا} يعني وجعل فيها طرقًا مختلفة تسلكونها في أسفاركم، والتردد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان {لعلكم تهتدون} يعني بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون {وعلامات} يعني وجعل فيها علامات تهتدون بها في أسفاركم قال بعضهم: تم الكلام عند قوله: {وعلامات} ثم ابتدأ {وبالنجم هم يهتدون} قال محمد بن كعب والكلبي: أراد بالعلامات الجبال والنجوم، فالجبال علامات النهار، والنجوم علامات الليل.
وقال مجاهد: أراد بالكل النجوم فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدي به.
وقال السدي: أراد بالنجم الثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي، فهذه يهتدى بها إلى الطريق والقبلة.
وقال قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء لتكون زينة السماء ومعالم الطريق ورجومًا للشياطين فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به.
قوله سبحانه وتعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} لما ذكر الله من عجائب قدرته وغرائب صنعته، وبديع خلقه ما ذكر على الوجه الأحسن والترتيب الأكمل، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرة الله تعالى، ووحدانيته وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جمعيًا قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تقدر على شيء {أفمن يخلق} يعني هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان، وهو الله تعالى الخالق لها {كمن لا يخلق} يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئًا البتة، لأنها جمادات لا تقدر على شيء، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها ويترك عبادة من يستحق العبادة وهو الله خالق هذه الأشياء كلها، ولهذا المعنى ختم هذه الآية بقوله: {أفلا تذكرون} يعني أن هذا القدر ظاهر غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر بل مجرد التذكر فيه، كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكره.
بقي في الآية سؤلان: الأول: قوله: {كمن لا يخلق} المراد به الأصنام وهي جمادات لا تعقل فكيف يعبر عنها بلفظة من وهي لمن يعقل، والجواب عنه أن الكفار لما سموا هذه الأصنام آلة وعبدوها أجريت مجرى من يعقل في زعمهم ألا ترى إلى قوله بعد هذا والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا فخاطبهم على قدر زعمهم، وعقولهم.
السؤال الثاني: قوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} المقصود منه إلزام الحجة على من عبد الأصنام حيث جعل غير الخالق مثل الخالق، فكيف قال على سبيل الاستفهام أفمن يخلق كمن لا يخلق والجواب عنه أنه ليس المراد منه الاستفهام بل المراد منه أن من خلق الأشياء العظيمة وأعطى هذه النعم الجزيلة، كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية والعبادة، وكيف يليق بالعاقل أن يترك عبادة من يستحق العبادة لأنه خالق هذه الأشياء الظاهرة كلها، ويشتغل بعبادة جمادات لا يخلق شيئًا البتة والله أعلم.
وقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} يعني أن نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن وعافية الجسم، وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم، والسمع الذي يفهم به الأشياء وبطش اليدين وسعي الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عن معرفتها وحصرها فكيف بنعمة العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق فذلك قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} يعني ولو اجتهدتم في ذلك وأتبعتم نفوسكم لا تقدرون عليه {إن الله لغفور} يعين لتقصيركم في القيام بشكر نعمته كما يجب عليكم {رحيم} يعني بكم حيث وسع عليكم النعم، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير، والمعاصي. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وألقى في الأرض رَوَاسِىَ}.
قيل: خلق الله الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجيال، لم تدر الملائكة مم خلقت.
وعطف وأنهارًا على رواسي.
ومعنى ألقى: جعل، ألا ترى إلى قوله: {ألم نجعل الأرض مهادًا والجبال أوتادًا} وقوله: {وجعل فيها رواسي من فوقها} وقال: {وألقيت عليك محبة مني} أي: جعلت.
وقال ابن عطية: قال المتأولون: ألقى بمعنى خلق وجعل، وهي عندي أخص من خلق وجعل، وذلك أن ألقى يقتضي أن الله أوجد الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن، عن قيس بن عباد: أنّ الله تعالى لما خلق الأرض جعلت تمور إلى آخر الكلام السابق، وهو أيضًا مروي عن وهب بن منبه.
وقال ابن عطية أيضًا: وقوله: {وأنهارًا} منصوب بفعل مضمر تقديره: وجعل، أو خلق أنهارًا.
أو إجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى، ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار انتهى.
وأي إجماع في هذا، وقد حكى عن المتأولين أنّ ألقى بمعنى خلق وجعل، وقال الزمخشري: وأنهارًا، وجعل فيها أنهارًا لأنّ ألقى فيه معنى جعل.
ألا ترى إلى قوله: {ألم نجعل الأرض مهادًا والجبال أوتادًا} وقال أبو البقاء: أي وشق أنهارًا وعلامات أي: وضع علامات، ويجوز أن يعطف على رواسي.
وقال أبو عبد الله الرازي: ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال، فلهذا السبب أتبع ذكرها بتفجير الأنهار، وسبلًا طرقًا إلى مقاصدكم لعلكم تهتدون بالسبل إلى مقاصدكم، هذا هو الظاهر، ويدل عليه ما بعده.
وقال تعالى: {وجعل لكم فيها سبلًا لعلكم تهتدون}.
وقيل: تهتدون أي: بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها، فهو من الهداية إلى الحق، ودين الله.
وعلامات هي معالم الطرق، وكل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك قاله الزمخشري، وهو معنى قول ابن عباس.
وقال أبو عبد الله الرازي: ورأيت جماعة يتعرفون الطرقات بشم التراب.
وقال ابن عيسى: العلامة صورة يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة.
وقال ابن عطية: وعلامات نصب كالمصدر أي: فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها، وعلامات أي: عبرة وإعلامًا في كل سلوك، فقد يهتدي بالجبال وبالأنهار وبالسبل انتهى.
وقال ابن الكلبي: العلامات الجبال.
وقال النخعي ومجاهد: النجوم.
وأغرب ما فسرت به العلامات أنها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تسمى بالعلامات، وذلك في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن، فإذا ظهرت كانت علامة للوصول لبلاد الهند وأمارة للنجاة.
وقرأ الجمهور: {وبالنجم} على أنه اسم جنس، ويؤيد ذلك قراءة ابن وثاب: {وبالنجم} بضم النون والجيم، وقراءة الحسن: بضم النون.
وفي اللوامح الحسن: النجم بضمتين، وابن وثاب: بضمة واحدة، وجاء كذلك عن ابن هشام الرفاعي، ولا شك في أنه يذكره عن أصحاب عاصم انتهى.
وذلك جمع كسقف وسقف، ورهن وترهن، وجعله مما جمع على فعل أولى من حمله على أنه أراد النجوم، فحذف الواو.
إلا أن ابن عصفور ذكر أن قولهم: النجم من ضرورة الشعر، وأنشد:
إن الذي قضى بذا قاض حكم ** أن يرد الماء إذا غاب النجم

قال: يريد النجوم.
مثل قوله:
حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق

يريد: الحلوق.
والتسكين: قيل تخفيف، وقيل: لغة.
وعن السدي: هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي.
وقال الفراء: المراد الجدي والفرقدان انتهى.
قيل: والجدي هو السابع من بنات نعش الصغرى، والفرقدان الأولان منها، وليس بالجدي الذي هو المنزلة، وبعضهم يصغره فيقول: جدي.
وفي الحديث عن ابن عباس أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وبالنجم} فقال: «هو الجدي» ولو صح هذا لم يعدل أحد عنه.
وقال ابن عباس: عليه قبلتكم، وبه تهتدون في بركم وبحركم.
وقيل: هو القطب الذي لا يجري، وقيل: هو الثريا، وقال الشاعر:
إذا طلب الجوزاء والنجم طالع ** فكل مخاضات الفرات معابر

وقال آخر:
حتى إذا ما استقل النجم في غلس ** وغودر البقل ملوى ومحصود

أي ومنه ملوى، ومنه محصود، وذلك إنما يكون عند طلوع الثريا.
وهم: ضمير غيبة خرج من الخطاب إلى الغيبة، كان الضمير النعت به إلى قريش إذ كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم.
وقدم المجرور على ما يتعلق به اعتناء ولأجل الفاصلة.
والزمخشري على عادته كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا هم يهتدون.
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}.
ذكر تعالى التباين بين من يخلق وهو الباري تعالى، وبين من لا يخلق وهي الأصنام، ومن عبد ممن لا يعقل، فجدير أن يفرد بالعبادة من له الإنشاء دون غيره.
وجيء بمن في الثاني لاشتمال المعبود غير الله على من يعقل وما لا يعقل، أو لاعتقاد الكفار أنّ لها تأثيرًا وأفعالًا، فعوملت معاملة أولي العلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق، أو لتخصيصه بمن يعلم.
فإذا وقعت البينونة بين الخالق وبين غير الخالق، من أولي العلم فكيف بمن لا يعلم البتة كقوله: {ألهم أرجل يمشون بها} أي: أن آلهتهم منحطة عن حال من له أرجل، لأنّ من له هذه حي، وتلك أموات، فكيف يصح أن يعبد لا أن من له رجل يصح أن يعبد؟ قال الزمخشري: {فإن قلت}: هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهًا بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حق الإلزام أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ {قلت}: حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له، وسووا بينه وبينه، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهًا بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} ثم وبخهم بقوله: {أفلا تذكرون} أي: مثل هذا لا ينبغي أن تقع فيه الغفلة.
والنعمة يراد بها النعم لا نعمة واحدة، يدل على ذلك قوله تعالى: {وإن تعدوا} وقوله: {لا تحصوها} إذ ينتفي العدو الإحصاء في الواحدة، والمعنى: لا تحصوا عدها، لأنها لكثرتها خرجت عن إحصائكم لها، وانتفاء إحصائها يقتضي انتفاء القيام بحقها من الشكر.
ولما ذكر نعمًا سابقة أخبر أنّ جميع نعمه لا يطيقون عدها.
وأتبع ذلك بقوله: {إن الله لغفور رحيم} حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعم، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.
ولما كان الإنسان غير قادر على أداء شكر النعم، وأن له حالة يعرض فيها منه كفرانها قال في عقب الآية التي في إبراهيم: {إن الإنسان لظلوم كفار} أي لظلوم بترك الشكر كفار للنعمة.
وفي هذه الآية ذكر الغفران والرحمة لطفًا به، وإيذانًا في التجاوز عنه. اهـ.